BAC 2010 à Kairouan

انتهت الدّورة الرّئيسيّة للباكالوريا وبدأت بنهاياتها مرحلة الانتظار، انتظار التلاميذ لنتائجهم وانتظار الأولياء لنتائج أبنائهم وانتظار المربين لثمرة عملهم طوال موسم مرهق من العمل والمكابدة.
وقد كانت امتحانات الباكالوريا، وأنا أراقب في الجنوب منذ سنوات غير بعيدة، أشبه ما تكون بالاحتفال.. ثمّ بدأ الاحتفال يتقشّف، ينحسر يتخفّف حتى كاد يبقى عاريا،هذا إن لم يكن قد فعل...
أوّل انتقالي إلى العاصمة ومصافحتي لمظاهر التقشّف المريبة تساءلت بكلّ براءة، واللّه، عن الأسباب الداعية إلى ذلك، فقيل لي حينها إنّكِ في الشّمال الآن، وما كان من "كرم" في المراكز الكتابيّة إلاّ خاصيّة متأصّلة في أهل الجنوب، استغربت للقول ولكنّي ابتلعته على مضض حينها.. فما معنى أن يكون "للكرم" موطن دون آخر..؟ ثمّ ما علاقة الكرم بتوفير خدمات حيويّة للإطار المراقب وللتلاميذ؟ وهل أنّ مدير المؤسّسة، مركز الامتحان، سيدفع ثمن المشروبات والقهوة والمرطّبات من خزينته الخاصّة؟ أليست هنالك ميزانيّة تُرصد للمعاهد كلّ سنة ومن المفترض أن يُخصَّصَ جزء منها لمتطّلبات المركز أيّام الاختبارات الكتابيّة؟ أليس في الاحتفاء بالتلاميذ والإطار التربوي مظهرا للتحضّر وتتويجا من وزارة التربية لسنوات طويلة من العمل ( ستّ سنوات في المرحلة الأساسيّة وثلاث سنوات في المرحلة الإعداديّة، وأربع سنوات في المرحلة الثانويّة)؟
.. بعد ذلك، دأبت مظاهر التقشّف على التفاقم سنة بعد أخرى، فغابت المشروبات الغازية والتحقت بها القهوة وأخيرا، هذه السنة اقتدى بهما الماء الصالح للشّراب فركض خلفهما إلاّ ما ندر منه ولم يستطع الرّكض.. لنصل بذلك إلى مظاهر تقشّف غير مسبوقة. وإلاّ كيف نفسّر قارورة ماء واحدة تُخصَّص لعشرين تلميذا ومراقبيْن.. نعم لاثنين وعشرين فردا يقضّون أربع ساعات كاملة، في مادّة الفلسفة، وأحد الزملاء اضطرّ أن يشتري من ماله الخاص ليشرب التلاميذ..! وعندما تطلب المزيد من الماء يأتيك الجواب الحسن: ليس لنا ماء..!
سأبدأ أوّلا بالتّلاميذ، هؤلاء الذين بينهم من يخوض امتحانات وطنيّة للمرّة الأولى في حياته لأسباب نعرفها جميعا ولا فائدة في الوقوف عندها الآن وقد تحين فرص أخرى.. هؤلاء التلاميذ هم في حاجة إلى إحاطة داخل مؤسّستهم تدفعهم إلى العمل وتجعلهم يقبلون عليه دون وجلٍ.. وأذكر أنّ بعض المديرين كان يوفّر إلى جانب المياه المعدنيّة، بالطّبع، أنواعا من العصائر والمرطّبات للتلاميذ حتّى يُدخلهم في أجواء احتفاليّة تقوّض الرّهبة والضّغط النّفسي قبل الامتحان وأثاءه..
أمّا الأساتذة المراقبون، فإنّ توفير بعض القهوة والمرطّبات صباحا، والمياه والمشروبات سيجعله يعمل في ظروف مريحة وهو الذي عليه يقف نجاح عمليّة المراقبة وسير الاختبارات في المراكز الكتابيّة..
ولكن تتعاقب السنوات ويزداد التقتير وتصبح فكرة "كرم أهل الجنوب" مُضحكة..، هل يدفع المديرون في الجنوب سابقا ، وأقول سابقا لأنّ التقشف أصبح ظاهرة عامّة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من جيوبهم.. قطعا لا..هم يعودون إلى الميزانيّات التي تخصّصها لهم الإدارات الجهويّة التي يتبعونها بالنّظر.. وأفترض ، من باب ما يجب أن يكون، أن يخصّص مديرو المعاهد جزءا من هذه الميزانيّات لمتطلّبات فترة الاختبارات الكتابية سواء في امتحان الباكالوريا أو في شهادة ختم التعليم الأساسي.. ولا أريد أن أذهب في مصاريف المديرين مذاهب أجد نفسي بعدها متّهمة بالثلب والادّعاء بالباطل دون بيّنة ولا أن أطمئنّ لتبريراتهم حول الميزانيّات فأغالط نفسي وتتهمني هذه النّفس بالغباء لذلك سأسكت عن هذا الموضوع إلى حين..
وحتّى أتبيّن جليّة الأمر، أمر التقتير طبعا، اتّصلت بجمع من الأصدقاء في مراكز مراقبة متنوّعة فأكّدوا على ظاهرة الفقر في المراكز الكتابيّة ولكن بدرجات متفاوتة.. وانتهيت إلى أنّ المراكز الكتابية للباكالوريا هذه السّنة أرقاها، في مستوى الخدمات، الطّبقة المتوسّطة، وهي قليلة وأدناها تحت عتبة الفقر وهي الأغلبيّة.. وطفا سؤال مشروع.. لمَ هذا التّفاوتُ، أليست كلّ المراكز تابعة لوزارة التّربية؟ أم أنّ الأزمة العالميّة أثّرت في بعض المعاهد وتناست بعض المعاهد الأخرى؟ أم نحن في حاجة إلى مراقبين دوليين حتى نضمن العدل بين كلّ المراكز؟ وتذكّرت أنّ كلّ الناطقين الرّسميين باسم الوزارات المختلفة في بلادنا كانوا قد اتّفقوا أنّ تونس كانت بمنأى عن الأزمة الاقتصادية العالميّة التي عصفت بالعالم وأننا حافظنا على نسب النموّ العادية.. إذن؟؟؟ هل وزارة التّربية هي الاستثناء؟ أم لعلّها أرادت أن تساند أزمة المحروقات وهذه متاهة أخرى ليس هذا مجال البحث فيها..
حملت حيرتي وسألت بعض المديرين.. ولم يبخلوا بالجواب.. بدّدوا حيرتي بتفسير لو تدرون وجاهته.. تفسير مُفْحِمٌ لأسباب التقشّف.. واكتشفت أنّ وزارتنا الجليلة كانت تحتفي بالمراقبين والتلاميذ بأموال الشُّعَبِ.. والشُّعبُ ليست جمع شعبة، تلك التي يتوجّه إليها تلاميذ اليوم طلبة الغد وإنّما هي جمع شعبة ترابيّة.. نعم، يقول السّادة المديرون أنّ الشُّعَبَ كانت تجود على المعاهد باحتياجاتها طوال أيّام الامتحانات وأنّها قرّرت أن ترفع يديْها في السّنوات الأخيرة عن وزارة التّربية.. وأنّ ما كنت أشهده من "كرم" في بعض المعاهد يعود إلى الأيادي البيضاء للشّعبة..!
ولأنّي بدأت امتحانات هذه السّنة بعسر في الفهم فلم أفهم ملصقات وزارة التّربية المكتوبة بالدّارجة وغايات وزارتنا الموقّرة منها فإنّي أيضا أنهيتها بعسر آخر في الفهم أيضا،وقّاكم الله شرّ كلّ عسر، فلم أفهم إلى أيّ هيكل ننتمي، أإلى وزارة التّربية وإداراتها الجهوية ومراكز امتحاناتها أم إلى الشّعب التّرابيّة؟ عليّ أن أشكر الشّعب التّرابيّة على تبنّيها لنا طوال السّنوات الماضية في غياب أمّنا الوزارة ولكن...
أين وزارتنا، وزارة التربية،..؟ أين إداراتنا الجهويّة..؟ أين ميزانيّات المعاهد؟ ورجاء لا تقولوا لي إنّها للصيانة وللمقتنيات الجديدة.. فهذا موضوع لن أتحدّث فيه الآن لأنّه يتطلّب أكثر من قول وأكثر من فصل.. ولكن فقط أقول: عيب ألاّ تنخرط وزارتنا إلاّ في الأزمة الاقتصاديّة العالميّة فتتقشّف علينا.. وعيب أن تعوّل وزارتنا، وزارة التّربية على غيرها في تأمين حاجيات منظوريها.. وعيب ألاّ تخصّص ميزانيّة كافية لمراكز الاختبارات الكتابيّة.. وأرجو أن يكون حال مراكز الإصلاح أفضل من حال المراكز الكتابيّة كما أرجو أن تكون حال مناظرة التاسعة أساسي أفضل من حال امتحانات الباكالوريا..
وإلى لقاء قريب في رحاب وزارة التربية.