الدراما الإيرانية تكتسح قلوب التونسيين

انتشرت في السنوات الماضية نوعية خاصة جدّا من الدراما الإيرانية المدبلجة باللغة العربيّة، بدأت بثّ مسلسلاتها في قناتي سحر سابقاً، وفضائية الكوثر حالياً الناطقتين بلغة الضّاد والموجّهة للعالم العربي، ثمّ تبنّت هذه الدراما قنوات لبنانية وعراقية ذات بعد مذهبي شيعي.
هذا العام وانطلاقا من شهر رمضان تبنّت قناتي نسمة وحنّبعل هذه الدراما الدينيّة الإيرانيّة في برمجتها الرمضانية بمسلسلي يوسف الصدّيق للأولى والمسيح في الثانية ثمّ تواترت الإعلانات على شاشة نسمة مبشّرة بمسلسل آخر في نفس السّياق يعتني بسيرة إبراهيم الخليل ليتواصل العرض، وهذه الخطوة ما كانت لتقدم عليها نسمة لولا ما لاحظته من إقبال من الجمهور التونسي وحتّى العربي على مثل هذه النوعيّة التي قطعت مع الدراما السائدة سواء كانت سوريّة أو مصريّة أو خصوصا تركيّة.
هل تفتكّ ايران عصا السبق من جارتها تركيا بهذه النوعيّة المغايرة تماما؟ المسلسلات التركية تعوّل على جمال ممثليها وعلى دغدغة عواطف المتفرّج وتواتر الأحداث بتشويق متواصل وصورة جميلة بتقنيات حديثة مع بذخ في اختيار أماكن التصوير والملابس ممّا يُعيّش المتفرّج في حلم جميل يقطع به مع حياته اليوميّة وروتينها المقلق.
لا أعتقد أنّ زمن المسلسلات التركيّة قد انتهى فللرومانسيّة عشّاقها دائما ولكن لنعترف أنّ ايران وجدت موضع قدم بمادتها التمثيليّة داخل قلوب النّاس ومسّت عواطفهم لأسباب عديدة لعلّ أهمّها تفرّدها بهذه النوعيّة من الأعمال التي اتخذت من قصص الأنبياء موضوعا ومحورا لأعمالها وأجازت لنفسها انطلاقا من فتاوى علماء قُمْ تصوير الأنبياء وأزواجهم.
فما هي أسباب نجاح هذه النّوعية من الدراما؟
أوّلا لا بدّ من الإقرار بتقدّم السينما الإيرانيّة والحظوة التي أصبحت لديها في العالم منذ التسعينات بفضل أجيال مختلفة من المخرجين الذين يعيشون داخل إيران أو خارجها تميّزت أعمالهم بالتقنية العالية والمعالجة السينمائيّة الحديثة والمواضيع المثيرة للجدل جعلتهم يحصدون الجوائز في مختلف المهرجانات العالميّة ويُبرمجُون في أهمّ القاعات.
ولعلّ من أهمّ المخرجين محسن مخملباف صاحب فيلم "غابة" وهي تعني بالفارسية السجادة الجميلة وقد فاز هذا الفيلم بعديد الجوائز العالمية والذي أدار الأعناق إلى السينما الإيرانية ليفوز بجائزة النقاد في كان 2000 بفضل فيلمه "قندهار" ليشجع أجيال جديدة من السينمائيين الإيرانيين لخوض تجربتهم الخاصة ليكوّنوا مدرسة أثّرت كما قال بعض النقاد في الموجة الجديدة للسينما العالمية.
ثانيا الميزانية الضخمة والهائلة المخصّصة لمثل هذه المسلسلات ففي مسلسل يوسف الصديق لاحظ الجميع البذخ الكبير في بناء الديكورات حيث تمّ بناء مدينة كاملة بقصورها وطرقاتها ومعابدها وتماثيلها ومراسيها ومخازنها ، تمّ تجهيزها بأدوات ذلك العصر من أثاث وعربات وملابس ومراكب ولوازم حروب وخيول، كذلك تمّ بناء قرى الكنعانيين مع اهتمام بأدواتهم وملابسهم ودوابهم وأسلوب عيشهم.
ومن النقاط الإيجابية في العمل النجاح الباهر في الماكياج الذي يقطع أي شكّ في تقدّم أعمار الشخصيّات بتجعد وجوههم واسترسال شعورهم وبياض أعين بعضهم، هذه القيافة كان لها دور كبير في جعل المتفرّج يحيا المسلسل بكلّ جوارحه دون أي خلل ينفره أو يشوّش تركيزه ، وقع فيها دراسة المجتمع المصري القديم والاشتغال بحرفيّة عالية على طريقة تكبير العين والاعتناء باللحية الفرعونية المقدّسة وغير ذلك من المميّزات.
كان لحسن اختيار أماكن التصوير دورا هاما في وضع المتفرّج في الإطار الضروري لمتابعة ملائمة مع وضع الديكورات المناسبة، فلم يشكّ المتفرّج أنّه إزاء أرض مصريّة بنيلها وصحراءها وأطيانها.
كذلك لا بدّ من لإشارة إلى التقنية السينمائيّة في التصوير ممّا أخرج الصورة من روتينيتها ممّا تلائم مع الجوّ العام للعمل.
ولعلّ من أهمّ نقاط القوّة في مسلسل يوسف الصدّيق التمثيل فاختيار الممثّلين كان ناجحا إلى أبعد الحدود في أغلبه فنحن إزاء ممثّلين محترفين يمسكون أنفاس المشاهد ويورّطونه معهم في لعبتهم الدرامية ولعلّ المشهد الأكثر روعة ذاك اللقاء بين يوسف وأخيه بنيامين على طاولة الطعام ومحاولة كتمان مشاعرهما الجيّاشة أمام بقيّة إخوتهما في قراءة رائعة ومميزة للموقف العام ولإطاره العاطفي والواقعي.
ومن الممثلين الذين برزوا بشدّة في المسلسل الفنانة التي جسدت دور زليخة زوجة عزيز مصر والتي رأيناها في مختلف انفعالاتها وحالاتها حيث أبدعت حقيقة في تقديم دورها فجسدت النبل والتعالي ، العشق والتفاني، المذلّة والخنوع ، العشق الإلهي والتصوّف ، رأيناها امرأة جميلة وثرية، ثمّ عجوزا متشرّدة، رأيناها ناحبة وضاحكة، مناجية وصارخة، ونحن نتفهم سر إطالة المخرج في مشاهدها وتركيزه عليها لأنّه إزاء فنانة كبيرة استغلّ طاقاتها الكامنة وأحسن إدارتها فأعطت دورا من أروع ما رأينا.
ولا ننسى الفنان مصطفى زماني الذي جسّد دور يوسف النبيّ الذي كان في مستوى مهمّته الصعبة في إحداث المعادلة بين دوره كفنّان وحساسية الشخصية التي يقدمها وقد صرّح إننا نريد إبراز طهارة يوسف وحسن تدبيره ولا جماله.
كذلك محمود باك نيت الذي جسّد دور يعقوب النبيّ الذي كان عملاقا في التقمّص حيث أقنع إلى ابعد الحدود خصوصا حين تقدّمت به السنّ فجسّد دورا مركّبا جمع فيه بين قدوة الرسل وعاطفة الأب المكلوم في ولده وقيادته لعشيرته وأبناءه الذين غدروا أخاهم، ولعلّ أهمّ اللحظات في المسلسل تلك التي صوّرت انهياره وبياض عينيه من شدّة حزنه على فراق بنيامين ويوسف، وأعتقد أنّ صورة كتلك وتمثيلا رائعا كالذي رأيناه تطلّب مجهودات خارقة ليصل إلينا بتلك الروعة والحرفيّة.
ماهي وصفة نجاح هذا المسلسل وغيره من الأعمال الإيرانية؟ لعلّ أهمّ عنصر هو الحرفيّة العالية فمخرج العمل فرج الله سلحشور سبق له أن أخرج جملة من الأعمال المشابهة منها: "أصحاب الكهف" و"توبة نصوح" و"النبي أيوب" أشرف على كتابة السيناريو الذي ساهم في كتابته عشرون مبدعا بقوا أربع سنوات يكتبون القصّة مستعينين بكتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ وبعض كتب المذهب السني، حتى تجمع لديهم ما يقارب 8000 صفحة، اختصرت في حوالي 1800 صفحة، وكلّفت مهمّة انتقاء الممثلين المعبرة عنها بالكاستينغ سنة كاملة.
ولعلّ أهمّ عامل أيضا ما عبّر عنه المخرج ذاته في إحدى المقابلات التلفزيونية وهو إظهار وجه يوسف عليه السلام والنبي يعقوب متجاوزا بعض الأصوات المنادية والفتاوى بمنع تصوير الأنبياء رادّا عليهم بأنه يظهرهم في صورة حسنة ويقدمها كقدوة للمجتمع مع أشخاص ذوي سيرة طيّبة وأنه بذلك يردّ على من يُظهر الأنبياء في صور بشعة وكاريكاتورات تهكميّة.
مسلسل يوسف الصدّيق فتح شهية الدراما الدينية الإيرانية فإثره سيعرض مسلسل إبراهيم الخليل على قناة نسمة ولكن أهمّ انتظار يبقى لمسلسل سليمان النبي للمخرج والكاتب شهريار بحراني والذي بلغت تكلفة إنتاجه خمسة مليون دولار ومدة تصويره تسعة أشهر
عادل النقاطي : جريدة الصحافة 2 أكتوبر.