Ammi Chedly

إهداء خاصّ : هذه الخاطرة مهداة لكلّ لاعبي السّتينات والسّبعينات الّذين وصلنا ذكرهم وغاب عنّا فنّهم
إستيقظ عمّي الشّادلي باكرا على غير عادته منذ عشر سنوات،هو جاوز السّتين بسنتين،لكنّ هيئته توحي بأنّه على مشارف الثّمانين،فقد إشتعل رأسه شيبا وتقوّس ظهره وارتعشت يداه بفعل الزّمن.عمّي الشّادلي أو "شدولة" كما كان يحلو للجميع ، مناداته،يقيم في مأوى للعجّز منذ حوالي عشر سنوات،أي منذ أن إشتدّ به مرض السّكري وأصبح لا يقوى على القيام بشؤونه الخاصّة بمفرده...كان عمّي الشّادلي يستيقظ في سائر الأيّام في العاشرة صباحا،لكنّه نهض اليوم على غير العادة في السّادسة صباحا...على أطراف أصابعه تسلّل إلى الحمّام، توضّأ وصلّى ، جلس برهة يتمتم بكلمات غير مسموعة،رجع إلى العنبر خلسة ،إرتدى ملابسه الّتي لم يعرف غيرها منذ سنة كاملة،نظر إلى رفقاء دربه وتمتم بكلمات مبهمة. خرج عمّي الشّادلي إلى حديقة المأوى حيث وجد بعض العجائز، ألقى عليهنّ التّحيّة ثمّ بدأ يحاول الوصول إلى بوّابة الخروج بدون لفت الأنظار إليه.حانت لحظة غفلة من حارس المأوى،إستجمع عمّي الشّادلي كلّ قواه وتسلّل إلى خارج المأوى للمرّة الأولى من عشر سنوات ...بمشقّة بالغة واصل مسيره بين الأزقّة والشّوارع، تغيّرت المعالم وبصعوبة تذكّر بعض الأماكن الّتي كان يجوبها في صغره، لم يتعرّف على أحدٍ ولم يتعرّف عليه أيّ من المارّة...أخذ منه الإجهاد مأخذه،توقّف برهة ثمّ إستأنف المسير حتّى وصل إلى مقهى العزعوزي، أين كان يقضّي أغلب فترات فراغه...جلس برهةً ثمّ نادى على النّادل
" وينو الحاج عيّش ولدي "
"الحاج...يعيش راسك يا بابا، توّة أربعة سنين"
"اللّه أكبر،الدّوام للّه...جيبلي قهيوة عيّش ولدي"
جلس عمّي الشّادلي يحتسي قهوته...كان ينظر إلى المارّة فلا يتعرّف إلى أحد منهم...بدأ يسترجع ذكرياته حين كان شابّا يافعا،كان لاعبا يساريّا،ساحرا في أدائه،فنّانا في عطائه فوق الميدان...لم يبخل يوما بحبّة عرق من أجل إعلاء راية جمعيّته عاليا...كان "شدولة"لاعبا ألمعيّا وكان الجميع يتودّد إليه، كان كريما وجوادا بلا حدّ. لم يحاول في يوم من الأيّام أن يدّخر مالا أو يقيم مشروعا لدرىء نوائب الزّمن. لمّا شارف على الإعتزال، تزوّج ولكنّه لم يرزق بالأولاد...سارت الأيّام بسرعة ودخل عمّي الشّادلي طيّ النّسيان...بدأ يحسّ بصعوبة توفير متطلّبات الحياة، قاوم حينا ولجأ إلى بعض محبّيه السّابقين أحيانا أخرى...تخلّت زوجته عنه بعد أن عيل صبرها ليبقى عمّي الشّادلي وحيدا ، إشتدّ به المرض فتمّ إدخاله إلى المستشفى ومن ثمّة تمّ تحويله إلى مأوى العجّز...
"بابا،يا بابا، خلّصني في القهوة"
"آه،قدّاش لازمك عيّش ولدي"
"250فرنك"
"يا لطيف،آخر مرّة شربتها كانت ب120"
إستجمع عمّي الشّادلي قواه، ثمّ قفل راجعا إلى المأوى، فهناك على الأقلّ سيجد من يهتمّ لأمره...بعد عناءٍ وصل لمأوى العجّز، حيث وجد كلّ المشرفين والنّزلاء في حيرةٍ وقلق شديدين بخصوص مصيره بعد أن غاب عن أنظارهم... سلّم على الجميع وطلب من أحد الممرّضين كوب ماء لإطفاء عطشه...إستلقى "شدولة"فوق فراشه، تمتم كعادته بكلمات مبهمة وأسلم
... روحه إلى بارئها