المدارس القرآنية بين القيروان ودوز

في رحلتي الربيعية إلى دوز تركت ورائي القيروان وهي مدينة اشتهرت بفقهاءها المتشبثين بمالك فقها وعبد الله بن أبي زيد شارحا وبسحنون أماما وبقالون قارئا، مدينة وحّدتنا بهذا التمسّك وجعلت بين التونسيين جميع المقومات التي تجمع ولا تفرّق.
والوارثة لهذا الدور التعليمي الآن هي دار القرآن وهي مؤسسة بناها متطوعون بأموال الزكاة قرب جامع عقبة بن نافع ويؤمّها بخلاف المواطنين لحفظ القرآن والأطفال لمزاولة الدراسة في روضتها أجانب من جنوب الصحراء كالتشاد والنيجر وبوركينا فاسو يتعلّم فيها هؤلاء اللغة والفقه ويحفظون القرآن على رواية قالون.
حين اقتربنا من قابس مدّ النخيل أعناقه ليذكرنا أننا من المطوية يبدأ الجنوب، تركنا قابس لنعود إليها حين عودتنا لنغسل بلاقمها حلوقنا التي سيملأها غبار الطريق، كيف لا وهو موسم الرياح واللقاح.
قرب مدينة قبلّي تتربع دوز على عتبات الصحراء تحتفي بتاريخها المجيد وصمودها في وجه الطغاة، هذه المدينة التي تزدهي أنّها أهدت الثورة شهيدها العالم والعالمي، سألنا عن زاوية سيدي المحجوب فأرشدونا إلى هناك بسرعة فائقة، فسيدي المحجوب جدّهم الذي أسس المدينة وزاويتها الصوفيّة فأسمه يدلّ على درجة صوفية لا يبلغها إلا الراسخون في العلم والتوحّد مع الذات العليّة.
استقبلنا شيخ الزاوية حفيد دفينها، شيخ يأسرك بهيبته ولحيته البيضاء الخفيفة ولباسه الصحراوي الجميل ، يحتفي بك ويدعوك إلى زيارة المكان الذي جعل منه مدرسة قرآنية يؤمها الشباب من كل ولايات الجمهورية، هذه المدرسة التي استطاعت أن تحفظ نفسها رغم مشروع تجفيف المنابع وتستقل بتمويلها وإدارتها بل وتبني بناء عصريا ووظيفيّا يشمل كلّ المرافق الضرورية للتدريس والإقامة والعبادة، سألته كيف استطعتم الاختفاء بمشروعكم هذا أجابني إنّها بركة الشيخ المحجوب الذي حجبنا عن القلوب الغادرة والنفوس الهدامة، نحن لنا أمر عليّ من الباي بفتح مدرسة قرآنية ورغم ذلك لم نتحصّل على رخصة من العهدين الماضيين ولكننا بقينا بل وتطورنا وبفضل أهل البرّ بنينا وأنفقنا على طلبتنا وتخرّج من زاويتنا مئات الحفّاظ الذين حافظوا على رواية ورش التي لن تجدها إلا عندنا في تونس سليمة ومحفوظة نتوارثها صدرا عن صدر.
جلب انتباهي طالب يمحو لوحته بالطين سألته أما زلتم تستعملون اللوحة والطين والحبر؟ نعم أجابني وهي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من حفظ القرآن لفظا ورسما فأنا أكتب الثّمن المطلوب على لوحي وأريه لشيخي الذي يراقب رسمه وشكله وموافقته لرواية ورش ثمّ أقرأه عليه عشر مرات على الأقلّ لأنزوي لحفظه وحدي حتّى إذا تمكنت منه انتقلت إلى شيخ آخر يراقب حفظي وضبطي وما محوي اللوح الآن إلاّ دليل على نجاحي في التمكّن من ذلك الثُمن المبارك الذي يخوّل لي الانتقال إلى غيره. سألته من أي مدينة أنت فأجابني أنّه من ولاية نابل وهو هنا منذ سنتين وأنّه ناصف حفظ القرآن حيث له في صدره أكثر من ثلاثين حزبا.
قاعة الدرس لا طاولات فيها ولا كراسي فكلّها مفروشة بالزرابي والحشايا مع وجود منضدة صفّ فوقها أدوات الرسم من القصب والحبر في حين تتناثر هنا وهناك ألواح الطلاّب المنتظرة الحفظ أو المحو والكتابة من جديد.
المبيت كان في مخيّم جميل في قرية صغيرة إسمها النويّل، تبعد عن قبلي أربعين كيلومترا وعن دوز ثمانية عشر، في الطريق إلى النويّل كثبان الرمال الزاحفة تشهد على موسم الرياح التي تغمر الطرقات والأرصفة والمنازل ولكن للتمر ثمنه الذي يدفعه الأهالي في هذه المواسم الربيعيّة العاصفة، في النويّل صلّينا المغرب والعشاء قصرا وجمعا في زاوية النويّل المتخصصة في تحفيظ القرآن منذ أن سخّرها الشيخ عمران لهذه الغاية حيث يتخرّج من القرّاء والحافظون كلّ عام بنفس طريقة مدرسة دوز غير البعيدة، هذه الزاوية أنقذتها الثورة من الاستيلاء عليها من قبل صخر الماطري الذي اتخذ من استخدام الذين سبيلا للثراء الفاحش وضمّ أملاك النّاس وروى لي شيخها المداني كيف تعرّضت الزاوية إلى مؤامرة أدّت إلى هدم جزء كبير منها حيث طُلب منه الانقطاع عن التدريس سنة كاملة حتى يقوم الماطري بإعادتها فرض لأنّها ملك موروث عن أبيه ولا يحقّ لأحد التصرّف بل وأراد ضمّها إلى أملاك الدولة ثمّ شراءها بعد ذلك لما لاحظ الإصرار على عدم الخضوع والغاية البديهية كانت هي إيجاد موضع قدم في المنطقة المشهورة بجودة تمورها من خلال الزاوية القرآنية المحترمة هناك من قبل الناس.
ومن الزوايا القديمة المحتوية على مدارس معطّلة بالمنطقة التي وقع إيقاف وظيفتها بعد الاستقلال زاوية جمنة المتربعة على مشارف جمنة قرب دوز منذ تسع قرون والتي أسسها الشيخ عبد الله الحاج و من أحفاده إبراهيم الجمني العالم في الفقه المالكي المتخرج عن كبار الفقهاء المالكيين كالشبراقيطي والقرشي وهو مؤسس المدرسة الجمنية أو المرادية بجربة عام 1085 هجري ثمّ مدرسة مطماطة التي بناها ابن أخيه موسى بن عمر الجمني التي تحتوي على 445 مخطوط وسمّاه فيها علي باشا باي سنة1168 هجري .

الحمد لله على عودة فتح المساجد و الجوامع لحفظ القران